فصل: بَابُ الرَّجْعَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ الرَّجْعَةِ:

(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي عِدَّتِهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَرْضَ) لِقولهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى إمْسَاكًا وَهُوَ الْإِبْقَاءُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِدَامَةُ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الرَّجْعَةِ):
وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي إعْقَابِ الطَّلَاقِ بِالرَّجْعَةِ ظَاهِرٌ، وَالرَّجْعَةُ تَتَعَدَّى وَلَا تَتَعَدَّى، يُقَالُ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَرَجَعْته إلَى أَهْلِهِ: أَيْ رَدَدْته، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} وَيُقَالُ فِي مَصْدَرِهِ أَيْضًا رَجْعًا وَرُجُوعًا وَمَرْجِعًا وَالرَّجْعِيُّ وَالرَّجْعَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَرُبَّمَا قَالُوا إلَى اللَّهِ رُجْعَانُك.
قولهُ: (رَجْعِيَّةً) الرَّجْعِيُّ تَطْلِيقُ الْمَدْخُولِ بِهَا مَا دُونَ الثَّلَاثِ بِلَا مَالٍ، أَوْ مَا دُونَ الثِّنْتَيْنِ إنْ كَانَتْ أَمَةً بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ وَالْمُشَبَّهِ أَوْ بِبَعْضِ الْكِنَايَاتِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْكِنَايَاتِ.
وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِالْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ فَلَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِنَايَاتٍ رَجْعِيَّةٍ غَيْرِهَا فَمَا فَقَدَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَلَيْسَ بِرَجْعِيٍّ كَالثَّلَاثِ وَغَالِبِ الْكِنَايَاتِ وَلَوْ بِلَا مَالٍ وَكَالْوَاحِدَةِ عَلَى مَالٍ وَقَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا لَا عِدَّةَ لَهَا قَبْلَهُ فَلَا تُتَصَوَّرُ الرَّجْعَةُ، وَالْمَوْصُوفُ وَالْمُشَبَّهُ مُسْتَدْرَكَانِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا قولهُ لِقولهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بَعْدَ قوله: {إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ثُمَّ قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} وَالْمُرَادُ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: أَيْ فَقُرْبُ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ.
فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ اسْتِدَامَةُ الْقَائِمِ لَا إعَادَةُ الزَّائِلِ، وَعَلَى شَرْعِيَّةِ الرَّجْعَةِ شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ فِي التَّقْدِيرَيْنِ وقوله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ تَوَقُّفِ الرَّجْعَةِ عَلَى رِضَاهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ أَحَقَّ مُطْلَقًا: أَيْ هُوَ الَّذِي لَهُ حَقُّ الرَّجْعَةِ وَإِنْ أَبَتْ هِيَ وَأَبُوهَا، وَحِكْمَتُهُ اسْتِدْرَاكُ الزَّوْجِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّهِ مِنْ النِّكَاحِ لَا لِغَيْرِهِ لَا أَنَّهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَقُّ مِنْهُ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْعِدَّةِ إذْ لَا يَكُونُ بَعْدَهَا بَعْلًا، وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ النِّكَاحِ أَيْضًا، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَنَّ إطْلَاقَ الرَّدِّ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْبَعْلِ مُجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ لِأَنَّ الرَّدَّ يَصْدُقُ حَقِيقَةً بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ زَوَالِ الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَالَ بَعْدُ.
يُقَالُ رَدَّ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فِي بَيْعٍ فِيهِ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ كَمَا يُقَالُ بَعْدَ الزَّوَالِ يَجُوزُ رَدُّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ، وَلَوْ تَعَارَضَا كَانَ حَمْلُ الرَّدِّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُجَازٌ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِيقَةِ الْبَعْلِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْبَعْلِ مُجَازًا مُحَافَظَةً عَلَى حَقِيقَةِ الرَّدِّ لِتَأَيُّدِ إرَادَةِ حَقِيقَةِ الْبَعْلِ بِجَعْلِ الرَّجْعَةِ إمْسَاكًا فِي قوله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أَوْ نَقول: يُمْكِنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَقِيقَتَيْنِ بِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالرَّدِّ الرَّدَّ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ كَوْنُهَا بِحَيْثُ لَا تَحْرُمُ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ فَلَا إشْكَالَ حِينَئِذٍ أَصْلًا.
قولهُ: (وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ) إمْسَاكٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا وَهُوَ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَزُولُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا مِلْكَ بَعْدَ الْعِدَّةِ لِيُسْتَدَامَ، وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ كَمَا وَقَعَ الْإِطْلَاقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى رِضَاهَا وَعَدَمِهِ كَذَلِكَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قِيَامِ الْعِدَّةِ وَعَدَمِهَا.
أَجَابَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ قِيَامِهَا ضَرُورِيٌّ لِمَا قُلْنَا.

متن الهداية:
(وَالرَّجْعَةُ أَنْ يَقول رَاجَعْتُك أَوْ رَاجَعْت امْرَأَتِي) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّجْعَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ قَالَ: (أَوْ يَطَأَهَا أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ) وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقول مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ حَتَّى يَحْرُمَ وَطْؤُهَا، وَعِنْدَنَا هُوَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَسَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْفِعْلُ قَدْ يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِدَامَةِ كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَالدَّلَالَةُ فِعْلٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ وَهَذِهِ الْأَفَاعِيلُ تَخْتَصُّ بِهِ خُصُوصًا فِي الْحُرَّةِ، بِخِلَافِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِدُونِ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْقَابِلَةِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا، وَالنَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ الْمُسَاكِنَيْنِ وَالزَّوْجُ يُسَاكِنُهَا فِي الْعِدَّةِ، فَلَوْ كَانَ رَجْعَةً لَطَلَّقَهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَهَذَا صَرِيحٌ) أَلْفَاظُ الرَّجْعَةِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ رَاجَعْتُك فِي حَالِ خِطَابِهَا وَرَاجَعْت امْرَأَتِي فِي حَالِ غِيبَتِهَا وَحُضُورِهَا أَيْضًا، وَمِنْ الصَّرِيحِ ارْتَجَعْتُك وَرَجَعْتُك وَرَدَدْتُك وَأَمْسَكْتُك.
وَفِي الْمُحِيطِ: مَسَكْتُك بِمَنْزِلَةٍ أَمْسَكْتُك وَهُمَا لُغَتَانِ، فَهَذِهِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِهَا بِلَا نِيَّةٍ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يُشْتَرَطُ فِي رَدَدْتُك ذِكْرُ الصِّلَةِ فَيَقول إلَيَّ أَوْ إلَى نِكَاحِي أَوْ إلَى عِصْمَتِي، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِارْتِجَاعِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَهُوَ حَسَنٌ إذْ مُطْلَقُهُ يُسْتَعْمَلُ لِضِدِّ الْقَبُولِ.
وَالْكِنَايَاتُ أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْت وَأَنْتِ امْرَأَتِي فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ.
لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَصْدُقُ عَلَى إرَادَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمِيرَاثِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِمْسَاكِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَكُونُ رَجْعَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ رَجْعَةٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَبِقول مُحَمَّدٍ نَأْخُذُ.
وَفِي الْيَنَابِيعِ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا فِي الْقُنْيَةِ.
وَجْهُ قول أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَزَوُّجَ الزَّوْجَةِ مَلْغِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا فِي ضِمْنِهِ.
قُلْنَا نَحْنُ لَا نَعْتَبِرُهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي ضِمْنِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ التَّزَوُّجِ مَجَازًا فِي مَعْنَى الْإِمْسَاكِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: لَوْ قَالَ رَاجَعْتُك بِمَهْرِ أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ قَبِلْت صَحَّ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَهْرِ فَيُشْتَرَطُ قَبُولُهَا.
وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ وَالْحَاوِي قَالَ: رَاجَعْتُك عَلَى أَلْفٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَجِبُ الْأَلْفُ وَلَا تَصِيرُ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ كَمَا فِي الْإِقَالَةِ.
قولهُ: (وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ) كَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدَ قوليْ مَالِكٍ خِلَافًا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَوَاهِرِ فِي حُصُولِ الرَّجْعَةِ بِرَاجَعْتُكِ بِلَا نِيَّةٍ قولانِ لِمَالِكٍ كَمَا فِي نِكَاحِ الْهَازِلِ.
قولهُ: (أَوْ يُقَبِّلُهَا أَوْ يَلْمِسُهَا بِشَهْوَةٍ) يُحْتَمَلُ كَوْنُ الشَّهْوَةِ قَيْدًا فِي اللَّمْسِ لَا فِيهِمَا لِأَنَّهُ أَفْرَدَ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ بِقَيْدِ الشَّهْوَةِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ غَرَضِهِ التَّشْرِيكُ فِي الْقَيْدِ لَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ بَعْدَ الْكُلِّ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ: التَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى دَاخِلِ فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ رَجْعَةٌ، وَلَمْ يُقَيِّدْ التَّقْبِيلَ فِي الْكِتَابِ.
وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى دُبْرِهَا فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ عَلَى قِيَاسِ قول أَبِي حَنِيفَةَ.
وَفِي الْبَدَائِعِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يُكْرَهُ التَّقْبِيلُ وَاللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَدَلَّ أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ رَجْعَةً.
وَفِي الْخُلَاصَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَكَّنَهَا أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ فَقَيَّدَ الْقُبْلَةَ بِالشَّهْوَةِ، لَكِنَّ قولهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ إنَّ الْفِعْلَ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِدَامَةِ وَالدَّلَالَةُ إنَّمَا تَقُومُ بِفِعْلٍ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ: أَيْ يَخْتَصُّ حُكْمُهُ بِهِ يُفِيدُ عَدَمَ اشْتِرَاطِهَا فِي الْقُبْلَةِ لِأَنَّ الْقُبْلَةَ مُطْلَقًا يَخْتَصُّ حُكْمُهَا بِهِ، بِخِلَافِ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ فَإِنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِهِ إلَّا إذَا كَانَا عَنْ شَهْوَةٍ لِمَا يُذْكَرُ فَلَا يَكُونَانِ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ دَلِيلًا، وَلَا يَكُونُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إلَى غَيْرِ دَاخِلِ الْفَرْجِ مِنْهَا رَجْعَةً.
هَذَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ مِنْهَا أَوْ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ رَجْعَةً إذَا كَانَ مَا صَدَرَ مِنْهَا بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهَا اتِّفَاقًا، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَاسًا مِنْهَا بِأَنْ كَانَ نَائِمًا مَثَلًا لَا بِتَمْكِينِهِ، أَوْ فَعَلَتْهُ وَهُوَ مُكْرَهٌ أَوْ مَعْتُوهٌ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ انْتَهَى، وَعَنْ مُحَمَّد كَقول أَبِي يُوسُفَ.
وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ الِاعْتِبَارُ بِالْمُصَاهَرَةِ لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ حُرْمَتِهَا بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ مِنْهَا أَوْ مِنْهُ، وَكَذَا إذَا أَدْخَلَتْ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ كَانَتْ رَجْعَةً اتِّفَاقًا، كَالْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ إذَا فَعَلَتْ بِالْبَائِعِ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ.
وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بِأَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ قَدْ يَكُونَانِ بِفِعْلِهَا كَمَا إذَا جَنَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ بِفِعْلِهَا قَطُّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَارِيَةِ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِفِعْلِهَا، هَذَا إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي الشَّهْوَةِ، فَإِذَا أَنْكَرَ لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ، وَكَذَا إنْ مَاتَ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ، وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشَّهْوَةِ لِأَنَّهَا غَيْبٌ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَلَا تَكُونُ الْخَلْوَة وَلَا الْمُسَافَرَةُ بِهَا رَجْعَةً إلَّا عِنْدَ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، وَتُكْرَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا كَكَرَاهَةِ خُرُوجِهَا مِنْ الْمَنْزِلِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُكْرَهُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ.
قولهُ: (مَعَ الْقُدْرَةِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْأَخْرَسِ وَمُعْتَقَلِ اللِّسَانِ.
قولهُ: (لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ سَبَبُ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ أَوْ سَبَبُ اسْتِحْدَاثِ الْحِلِّ الزَّائِلِ.
قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَقَالَ بِالثَّانِي، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي حِلُّ الْوَطْءِ وَحُرْمَتُهُ، فَعِنْدَنَا يَحِلُّ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَكُونُ الْحِلُّ قَائِمًا قَبْلَ انْقِضَائِهَا، وَعِنْدَهُ إنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ وَاسْتِيفَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَشَرْطٌ عِنْدَهُ عَلَى قول لَهُ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَذَا فِي التُّحْفَةِ.
قولهُ: (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي قولهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَمَّى إمْسَاكًا.
قولهُ: (وَسَنُقَرِّرُهُ) أَيْ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ قولهُ وَلَنَا أَنَّهَا: أَيْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةٌ إلَى آخِرِهِ، وَهُنَاكَ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ.
قولهُ: (كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ) يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ الْمُخْتَصِّ بِالْمِلْكِ كَمَنْ بَاعَ أَمَتَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ وَطِئَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فِيهَا فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ، فَكَمَا أَنَّ سُقُوطَ الْخِيَارِ بِاسْتِدَامَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ يَثْبُتُ بِالْفِعْلِ كَذَلِكَ اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بَعْدَ سَبَبِ الزَّوَالِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالطَّلَاقُ يُزِيلُهُ إلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ فَكَانَ أَضْعَفَ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ.
وَبِقولنَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْجِمَاعُ رَجْعَةٌ عِنْدَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَجَابِرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ: إنْ أَرَادَ بِهِ الرَّجْعَةَ فَهُوَ رَجْعَةٌ.
قولهُ: (خُصُوصًا فِي الْحُرَّةِ) فَإِنَّهُ لَا سَبَبَ لِحِلِّهَا فِيهَا مُطْلَقًا إلَّا النِّكَاحُ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ فِيهَا بِأَمْرَيْنِ.
قولهُ: (وَغَيْرِهِمَا) كَالْخَاتِنَةِ وَالشَّاهِدِ عَلَى الزِّنَا.
قولهُ: (فَلَوْ كَانَ) أَيْ النَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ رَجْعَةً لَطَلَّقَهَا لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الطَّلَاقُ، وَهَذَا التَّعْمِيمُ يُفِيدُ أَنَّ النَّظَرَ إلَى دُبْرِهَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً وَبِهِ صَرَّحَ فِي نِكَاحِ الزِّيَادَاتِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَطْءِ فِي الدُّبْرِ أَشَارَ الْقُدُورِيُّ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ رَجْعَةٌ إذْ هُوَ مَسٌّ بِشَهْوَةٍ وَزِيَادَةٌ لَا تَرْفَعُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَرَجْعَةُ الْمَجْنُونِ بِالْفِعْلِ وَلَا تَصِحُّ بِالْقول، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ.
وَقِيلَ بِهِمَا.
وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ ثُمَّ قَالَ وَطِئْتهَا وَأَنْكَرَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ.
وَلَوْ قَالَ لَمْ أَدْخُلْ بِهَا لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا.
وَتَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتُهَا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَاطِلٌ كَالنِّكَاحِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّهُ يُرَاجِعُ بِالْقول.
وَفِي الْيَنَابِيعِ: الرَّجْعَةُ سُنِّيَّةٌ وَبِدْعِيَّةٌ، فَالسُّنِّيَّةُ بِالْقول.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَحَدِ قوليْهِ لَا تَصِحُّ، وَهُوَ قول مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقولهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ.
وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ كَمَا فِي الْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ، إلَّا أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَيْ لَا يَجْرِيَ التَّنَاكُرُ فِيهَا، وَمَا تَلَاهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْمُفَارَقَةِ وَهُوَ فِيهَا مُسْتَحَبٌّ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا كَيْ لَا تَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ (وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَقَالَ كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ فَصَدَّقَتْهُ فَهِيَ رَجْعَةٌ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالْقول قولهَا) لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ فَكَانَ مُتَّهَمًا إلَّا أَنَّ بِالتَّصْدِيقِ تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
الشَّرْحُ:
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ.
قولهُ: (وَهُوَ قول مَالِكٍ) الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَا إشْهَادٍ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ كَقولنَا فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةً عَنْهُ، وَكَذَا الْمَنْسُوبُ إلَى الشَّافِعِيِّ قول لَهُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبَسِيطِ وَفِي الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ: الْإِشْهَادُ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي الرَّوْضَةِ لَهُمْ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى الْأَظْهَرِ.
قولهُ: (وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ فِي الرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْإِشْهَادِ) كَقولهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وقوله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وَقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا» وَهَذِهِ النُّصُوصُ سَاكِتَةٌ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ فَاشْتِرَاطُهُ إثْبَاتٌ بِلَا دَلِيلٍ وَمَا تُلِيَ فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَيْهِ إذْ الْأَمْرُ فِيهِ لِلنَّدْبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَ الرَّجْعَةَ بِالْمُفَارِقَةِ فِي قوله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَدْ أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ فِي جُمْلَتَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ كَالْوُجُوبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَالْمَجَازِيُّ كَالنَّدْبِ، فَإِذَا ثَبَتَ إرَادَةُ أَحَدِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا لَزِمَ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ وَإِلَّا لَزِمَ تَعْمِيمُ اللَّفْظِ فِي الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا وَقَدْ ثَبَتَ إرَادَةُ النَّدْبِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُفَارَقَةِ فَلَزِمَ إرَادَتُهُ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ، فَيَكُونُ النَّدْبُ الْمُرَادُ بِهِ شَامِلًا لَهُمَا وَهَذَا عَلَى قولنَا.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيُجِيزُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَنْتَهِضُ هَذَا عَلَيْهِ إلَّا بِانْتِهَاضِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي الْأُصُولِ، وَمَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ لَا حَاجَةَ إلَى إيرَادِ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ فَكَيْفَ قُلْتُمْ بِهِ هُنَا وَالِاشْتِغَالُ بِجَوَابِهِ لِلْمُتَأَمِّلِ أَصْلًا؟.
قولهُ: (كَيْ لَا تَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ) قِيلَ عَلَيْهِ لَا مَعْصِيَةَ بِدُونِ عِلْمِهَا بِالرَّجْعَةِ.
وَدَفَعَ بِأَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ سُؤَالٍ تَقَعُ فِي الْمَعْصِيَةِ لِتَقْصِيرِهَا فِي الْأَمْرِ.
وَاسْتَشْكَلَ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا إيجَابٌ لِلسُّؤَالِ عَلَيْهَا وَإِثْبَاتُ الْمَعْصِيَةِ بِالْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهَا، وَلَيْسَ السُّؤَالُ إلَّا لِدَفْعِ مَا هُوَ مُتَوَهَّمُ الْوُجُودِ بَعْدَ تَحَقُّقِ عَدَمِهِ فَهُوَ وِزَانُ إعْلَامِهِ إيَّاهَا إذْ هُوَ أَيْضًا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَكَذَا سُؤَالُهَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّهَا فِي النِّكَاحِ كَذَلِكَ، وَلَوْ رَاجَعَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ فَهِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ دَخَلَ بِهَا الْأَوَّلُ أَوْ لَا.
قولهُ: (وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ إلَخْ) هُنَا مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى إذَا لَمْ يُظْهِرْ رَجْعَتَهَا فِي الْعِدَّةِ حَتَّى انْقَضَتْ فَقَالَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِانْقِضَائِهَا كُنْت رَاجَعْتُك فِيهَا.
وَالثَّانِيَةُ قَالَ قَبْلَ الْعِلْمِ رَاجَعْتُك عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ.
أَمَّا الْأُولَى فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ أَمَةً أَوْ حُرَّةً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ أَوْ تُكَذِّبَهُ، فَفِي الْحُرَّةِ إنْ صَدَّقَتْهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا فَالرَّجْعَةُ أَوْلَى، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لَا تَثْبُتُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ وَالْخَبَرُ مُجَرَّدُ دَعْوَى تَمَلُّكِ بُضْعِهَا بَعْدَ ظُهُورِ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ، وَمُجَرَّدُ دَعْوَى مِلْكٍ فِي وَقْتٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِيهِ لَا يَجُوزُ قَبُولُهَا مَعَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ فِيهِ إنْشَاؤُهُ كَأَنْ يَقول فِي الْعِدَّةِ كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ تَثْبُتُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّهَمًا فِيهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يُنْشِئَهُ فِي الْحَالِ أَوْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إنْشَاءً إنْ كَانَتْ الصِّيغَةُ تَحْتَمِلُهُ، فَصَارَ كَالْوَكِيلِ إذَا أَخْبَرَ قَبْلَ الْعَزْلِ بِبَيْعِ الْعَيْنِ يُصَدَّقُ لِمِلْكِهِ الْإِنْشَاءَ، وَبَعْدَ مَا بَلَغَهُ الْعَزْلُ لَوْ أَخْبَرَ بِبَيْعِهِ سَابِقًا وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ لَا يُقْبَلُ قولهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ حَيْثُ لَمْ يُخْبِرْ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ إذَا كَذَّبَتْهُ بَلْ تَذْهَبُ إلَى حَالِهَا بِلَا يَمِينٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ إحْدَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي لَا يَمِينَ فِيهَا عِنْدَهُ وَفِي الْأَمَةِ إذَا كَذَّبَتْهُ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَالْقول لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَعِنْدَهُمَا الْقول لِلْمَوْلَى.
وَاخْتُلِفَ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَقولهِمَا، وَسَتَأْتِي أَوْجُهُ الْأَقْوَالِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ قولهِ لِلْحُرَّةِ وَبَيْنَ قولهِ لِلْأَمَةِ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ إذَا قَالَ قَبِلَ الِانْقِضَاءَ فَلْنُوَافِقْهُ فَنَقول: وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، فَإِنْ قَالَتْ مُجِيبَةً انْقَضَتْ عِدَّتِي مَفْصُولًا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ سُكُوتِهَا وَعَدَمِ جَوَابِهَا عَلَى الْفَوْرِ.
وَلَوْ قِيلَ وَجَبَ إحَالَتُهُ عَلَى أَقْرَبِ حَالِ التَّكَلُّمِ وَذَلِكَ حَالَ سُكُوتِهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ وَهُوَ بَعْدَ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ أَمْكَنُ، وَإِنْ قَالَتْهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ لَا تَثْبُتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ الِانْقِضَاءَ، فَلَوْ لَمْ تَحْتَمِلْهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ إلَّا إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ وَثَبَتَ ذَلِكَ.
وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ ظَاهِرًا لِبَقَائِهَا ظَاهِرًا مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَائِهَا فَتَثْبُتُ كَمَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ لَوْ قَالَ طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً انْقَضَتْ عِدَّتِي لَحِقَهَا طَلْقَةٌ أُخْرَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ قِيَامَهَا حَالَ كَلَامِهِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ شَرْعًا فَوَجَبَ قَبُولُ إخْبَارِهَا وَأَقْرَبُ زَمَانٍ يُحَالُ عَلَيْهِ خَبَرُهَا زَمَانُ تَكَلُّمِهِ فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُقَارِنَةً لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ، كَمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي قولهِ طَالِقٌ مَعَ انْقِضَاءِ عِدَّتِك، وَعَلَى هَذَا لَوْ اتَّفَقَ أَنْ خَرَجَ كَلَامُ الرَّجُلِ مَعَ قولهَا انْقَضَتْ عِدَّتِي يَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الرَّجْعَةُ، وَمَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ الْمَقِيسِ لَهُمَا عَلَيْهَا مَمْنُوعَةٌ فَلَا يَقَعُ عِنْدَهُ.
قِيلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ لِإِقْرَارِهِ بِالْوُقُوعِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنْشَاءٌ وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ لِيَكُونَ إقْرَارًا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ أَنْشَأَ فِي وَقْتٍ لَا يَصِحُّ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ.
نَعَمْ لَوْ عَرَفَ أَنَّ مُقْتَضَى الْفِقْهِ كَوْنُ إيقَاعِهِ وُجِدَ فِي حَالِ الِانْقِضَاءِ فَلَجَّ وَقَالَ لَا أَعْتَبِرُ هَذَا بَلْ وَقَعَ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ وَالْأَوْجَهُ فِيمَا إذَا ادَّعَى صِحِّيَّتَهُ إنْ طَلَّقْتُك وَنَحْوَهُ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ ظَاهِرٌ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ يَحْتَمِلُهُ لِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَرَاجَعْتُك بِالْعَكْسِ.
فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ هَذَا فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْمَنْعِ، وَتُسْتَحْلَفُ الْمَرْأَةُ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهَا كَانَتْ مُنْقَضِيَةً حَالَ إخْبَارِهَا.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الرَّجْعَةِ حَيْثُ لَمْ تُسْتَحْلَفْ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي الْعِدَّةِ أَنَّ إلْزَامَ الْيَمِينِ لِفَائِدَةِ النُّكُولِ وَهُوَ بَذْلٌ عِنْدَهُ وَبَذْلُ الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالِاحْتِبَاسِ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ جَائِزٌ، بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَإِنْ بَذْلَهَا لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إذَا نَكَلَتْ هُنَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْعِدَّةِ لِنُكُولِهَا ضَرُورَةً كَثُبُوتِ النَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى شَهَادَتِهَا بِالْوِلَادَةِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ قَدْ رَاجَعْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَقَالَا: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ الْعِدَّةَ إذْ هِيَ بَاقِيَةٌ ظَاهِرًا إلَى أَنْ تُخْبِرَ وَقَدْ سَبَقَتْهُ الرَّجْعَةُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا صَادَفَتْ حَالَةَ الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الِانْقِضَاءِ فَإِذَا أَخْبَرَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى سَبْقِ الِانْقِضَاءِ وَأَقْرَبُ أَحْوَالِهِ حَالُ قول الزَّوْجِ وَمَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَالْمُرَاجَعَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ (وَإِذْ قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا: قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقول قولهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: الْقول قول الْمَوْلَى) لِأَنَّ بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لَهُ، فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ لِلزَّوْجِ فَشَابَهُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ يَقول حُكْمُ الرَّجْعَةِ يُبْتَنَى عَلَى الْعِدَّةِ وَالْقول فِي الْعِدَّةِ قولهَا، فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ فَعِنْدَهُمَا الْقول قول الْمَوْلَى، وَكَذَا عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلْمَوْلَى فَلَا يُقْبَلُ قولهَا فِي إبْطَالِهِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ فِي الرَّجْعَةِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَهَا وَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ (وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُك فَالْقول قولهَا) لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ إذْ هِيَ الْعَالِمَةُ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (إذَا قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقول لَهَا عِنْدَهُ، وَقَالَا: لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ) وَهُوَ مَنَافِعُ بُضْعِهَا لِلزَّوْجِ فَيُقْبَلُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ.
وَلَا يَخْفَى قِيَامُ الْفَرْقِ بَيْنَ إقْرَارِهِ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ وَإِقْرَارِهِ بِأَنَّ الزَّوْجَ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِإِنْكَاحِهَا حَالَ غَيْبَتِهَا وَعَدَمِ إذْنِهَا فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فِي دَعْوَى الْمُرَاجَعَةِ وَهُوَ يَقول إنَّ حُكْمَ الرَّجْعَةِ مِنْ الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا يَنْبَنِي عَلَى الْعِدَّةِ مِنْ قِيَامِهَا وَانْقِضَائِهَا وَهِيَ أَمِينَةٌ فِيهَا مُصَدَّقَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِالِانْقِضَاءِ وَالْبَقَاءِ لَا قول لِلْمَوْلَى فِيهَا أَصْلًا، فَكَذَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا مُلَازَمَةَ يَحْكُمُ بِهَا الْعَقْلُ بَيْنَ كَوْنِ الْقول قولهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَيْنَ كَوْنِهَا لَهَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا إلَّا إذَا وَقَعَ لَازِمًا لِوُجُودِ قولهَا فِي الْعِدَّةِ قولا: أَيْ بِأَنْ تَدَّعِي فِيهَا الثُّبُوتَ أَوْ الِانْقِضَاءَ فَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ وَعَدَمُهَا لَازِمًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقول قولهَا فِيهَا مَا ثَبَتَ إلَّا لِأَجْلِ أَنَّ الْقول لَهَا فِي الْمُسْتَلْزَمِ لَا لِمَعْنَى تَقْتَضِيهِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي سَمَاعَ قولهَا فِي الرَّجْعَةِ ابْتِدَاءً كَمَا هُوَ هُنَا فَإِنَّهَا لَمْ تَدَّعِ فِي الْعِدَّةِ دَعْوَى يُخَالِفُهَا فِيهَا الزَّوْجُ بَلْ اتَّفَقَا عَلَى انْقِضَائِهَا وَوَقْتِ انْقِضَائِهَا، وَإِنَّمَا ادَّعَى فِي حَالِ كَوْنِهِ لَا مِلْكَ لَهُ عَلَيْهَا أَنَّهُ رَاجَعَهَا قَبْلَ الِانْقِضَاءِ، وَهِيَ مُنْكِرَةٌ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهَا.
قولهُ: (وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ) بِأَنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى وَصَدَّقَتْهُ فَالْقول لِلْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ.
وَقولهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَمَّا فِي الْيَنَابِيعِ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ حَتَّى يَتَّفِقَ الْمَوْلَى وَالْأَمَةُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا لَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ إلَّا إذَا اتَّفَقَا، إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِالرَّجْعَةِ وَلَا بِعَدَمِهَا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَقُلْ فِي الصَّحِيحِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ، وَيَسْتَلْزِمُ ظُهُورُ مِلْكِ الْمَوْلَى الْمُتْعَةَ فَلَا يُقْبَلُ قولهَا فِي إبْطَالِهِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا كَذَّبَتْهُ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الرَّجْعَةِ وَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ لِيُقْبَلَ قولهُ عَلَيْهَا.
قولهُ: (وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى لَمْ تَنْقَضِ فَالْقول قولهَا لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ إذْ هِيَ الْعَالِمَةُ بِهِ) دُونَ غَيْرِهَا: أَيْ بِالِانْقِضَاءِ وَلِذَا يُقْبَلُ قولهَا إنِّي حَائِضٌ حَتَّى لَا يَحِلَّ قُرْبَانُهَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِلسَّيِّدِ.
وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْتُ: يَعْنِي قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي بِالْوِلَادَةِ لَا يُقْبَلُ قولهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ قَالَتْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا مُسْتَبِينَ بَعْضِ الْخَلْقِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطْلُبَ يَمِينَهَا عَلَى أَنَّهَا أَسْقَطَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَعَشْرَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ، وَإِنْ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٍ) لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا مَزِيدَ لَهُ عَلَى الْعَشَرَةِ، فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَانْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ، وَفِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ يُحْتَمَلُ عَوْدُ الدَّمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْتَضِدَ الِانْقِطَاعُ بِحَقِيقَةِ الِاغْتِسَالِ أَوْ بِلُزُومِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ بِمُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً لِأَنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّهَا أَمَارَةٌ زَائِدَةٌ فَاكْتَفَى بِالِانْقِطَاعِ، وَتَنْقَطِعُ إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا تَيَمَّمَتْ انْقَطَعَتْ، وَهَذَا قِيَاسٌ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ بِالِاغْتِسَالِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُلَوَّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ طَهَارَةً ضَرُورَةَ أَنْ لَا تَتَضَاعَفَ الْوَاجِبَاتُ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَتَحَقَّقُ حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا ضَرُورِيَّةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ، ثُمَّ قِيلَ تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ عِنْدَهُمَا، وَقِيلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِيَتَقَرَّرَ حُكْمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ) أَيْ بِأَنْ يَخْرُجَ وَقْتُهَا الَّذِي طَهُرَتْ فِيهِ فَتَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، فَإِنْ كَانَ الطُّهْرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَهُوَ ذَلِكَ الزَّمَنُ الْيَسِيرُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا حَتَّى يَخْرُجَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَهُرَتْ فِي وَقْتٍ مُهْمَلٍ كَبَعْدِ الشُّرُوقِ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ إلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ.
قولهُ: (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً) فَإِنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّهَا أَمَارَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ زَائِدَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ لَيْسَا وَاجِبَيْنِ عَلَيْهَا، فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ وَإِنْ كَانَ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ حَلَّ وَطْؤُهَا وَانْقَطَعَتْ رَجْعَتُهَا.
قولهُ: (وَتَنْقَطِعُ إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ) أَيْ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
قولهُ: (حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ) بِرَفْعِ (يَثْبُتُ) لِأَنَّ حَتَّى هُنَا لَيْسَتْ لِلْغَايَةِ بَلْ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْغُسْلِ فَكَانَ التَّيَمُّمُ مِثْلُهُ، ثُمَّ انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ مِمَّا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ، وَلِذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ وَبَقِيَتْ لَمْعَةٌ انْقَطَعَتْ، وَكَذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَلَمْ تَتَيَمَّمْ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهِ فَانْقِطَاعُهَا بِالتَّيَمُّمِ وَبِهِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ أَوْلَى.
وَلَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِآخَرَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ وَإِنْ قَامَ مَقَامَ الْغُسْلِ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ.
وَالِاحْتِيَاطُ فِي التَّزَوُّجِ عَدَمُ جَوَازِهِ مَعَهُ وَفِي الرَّجْعَةِ انْقِطَاعُهَا مَعَهُ حَتَّى لَا يَأْتِيَهَا رَجُلٌ فِي شُبْهَةٍ.
قولهُ: (وَلَهُمَا أَنَّهُ مُلَوِّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ) أَيْ حَقِيقَةً لَا شَرْعًا كَذَا فِي الدِّرَايَةِ.
وَلْنُفَصِّلْ هَذَا الْمَقَامَ لِيَنْدَفِعَ مَا يُخَالُ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ لِلْأَوْهَامِ مُسْتَعِينًا فِيهِ بِالْمَلِكِ الْعَلَّامِ مُصَلِّيًا عَلَى سَيِّدِنَا نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ أَفْضَلِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ فَنَقول: هَذَا الْبَحْثُ لَهُ ثَلَاثَةُ مَوَارِد فِي الْفِقْهِ: أَوَّلُهَا بَابُ التَّيَمُّمِ فِي الْبَحْثِ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْفَرَائِضِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ أَوْ لَا، فَقَالَ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ تُثْبِتُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ بِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَلَا يَبْقَى بَعْدَهَا.
فَاتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا فِي جَوَابِهِ عَلَى أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ تَعْمَلُ عَمَلَ الْمَاءِ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ.
وَصَرَّحَ فِي النِّهَايَةِ فِي تَقْرِيرِهِ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ وَهُوَ الْعَدَمُ كَالْمَاءِ، إلَّا أَنَّهُ بِالْمَاءِ مُقَدَّرٌ إلَى وُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُنَا إلَى شَيْئَيْنِ الْحَدَثِ وَالْمَاءِ.
ثَانِيهَا بَابُ الْإِمَامَةِ فِي مَسْأَلَةِ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ فَافْتَرَقُوا فِيهَا، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ، وَقَالَا: مُطْلَقَةٌ فَيَجُوزُ.
وَثَالِثُهَا هُنَا فَافْتَرَقُوا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ عَكَسُوا كَلِمَتَهُمْ، فَتَرَاءَى لِمُحَمَّدٍ وَجْهَانِ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ: أَحَدُهُمَا قولهُ فِي الْإِمَامَةِ ضَرُورِيَّةٌ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي جَوَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ بَعْدَمَا قَالَ فِي الْإِمَامَةِ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ قَالَ هُنَا مُطْلَقَةٌ.
وَلَهُمَا وَجْهٌ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ وَهُوَ قولهُمَا هُنَاكَ مُطْلَقَةٌ وَهُنَا ضَرُورِيَّةٌ مُلَوِّثَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْ الشَّارِحِينَ يَأْخُذُ فِي تَقْرِيرِ قولهِمَا أَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ بِيَقِينٍ، وَلِهَذَا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ إنَّمَا يَصِيرُ حَدَثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فَقَدْ نَاقَضُوا جَمِيعًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ فِي التَّيَمُّمِ جِهَةَ الْإِطْلَاقِ وَجِهَةَ الضَّرُورَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ مُلَوَّثٌ فِي نَفْسِهِ مُغَبَّرٌ لَا يُطَهِّرُ: أَيْ لَا يُنَظِّفُ، فَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ يُزِيلُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا كَالْمَاءِ إلَى غَايَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ وُجُودِ الْحَدَثِ أَوْ الْمَاءِ، وَمَعْنَى الضَّرُورَةِ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ ضَرُورَةُ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ وَعَدَمُ تَفْوِيتِهَا وَتَكْثِيرٌ لِلْخَيْرَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ إكْرَامًا لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، وَلِذَا كَانَ مِنْ الْخَصَائِصِ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْإِخْلَالَ بِمَعْنَى الْإِطْلَاقِ إذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُ بَيَانُ سَبَبِ شَرْعِيَّتِهِ.
وَلَمَّا شُرِعَ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا شُرِعَ كَمَا شُرِعَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ ضَعْفَهُ وَانْحِطَاطَهُ عَنْ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُلَوَّثًا وَمُغَبَّرًا فَهُوَ بِسَبَبِ عَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ ابْتِدَاءً كَالْمَاءِ حَتَّى يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْوُضُوءِ تَحْسِينَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَتَنْظِيفَهَا لِلْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا وَالتُّرَابُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ بَلْ ضِدُّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِلضَّرُورَةِ الْمُتَحَقِّقَةِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ تَكْرِيمًا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذِكْرُ التَّلْوِيثِ وَعَدَمِ تَطْهِيرِهِ فِي نَفْسِهِ ذِكْرُ سَبَبِ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا لِلْحَاجَةِ الْمَذْكُورَةِ.
إذَا عَلِمْت هَذَا فَقولهُمْ مَعَ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا مُطْلَقَةٌ: أَيْ تُزِيلُ الْحَدَثَ، وَيُسْتَبَاحُ بِهِ كُلُّ مَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُسْتَبَاحُ بِهِ لِيَنْتَفِيَ بِهِ قَصْرُ الصِّحَّةِ بِهِ عَلَى فَرْضٍ وَاحِدٍ لَا يُنَافِي قولهُمْ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ عَلَى مَا سَمِعْت، فَمَنْ قَالَ إنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي مَوْضِعٍ وَقَالَ فِي آخَرَ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا أَصْلًا.
وَقول مَنْ ذَكَرَ فِي تَقْرِيرِهِ إنَّهُ لَا يَرْفَعُ بِيَقِينٍ حَاصِلُهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَرْفَعُهُ بِيَقِينٍ، وَهَذَا يَرْفَعُهُ ظَنَّا لِلْخِلَافِ فِي أَنَّ الْحَدَثَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ مُجَرَّدُ مَانِعِيَّةٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَرْفَعُهُ إلَّا الْمَاءُ وَحِينَ قِيلَ بِهِ صَارَ مَحِلَّ اجْتِهَادٍ، غَيْرَ أَنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الظَّنُّ.
وَالثَّانِي لِمَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ الْحَدَث وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ قَائِمٌ بِالْأَعْضَاءِ زَائِدٌ عَلَى نَفْسِ الْمَانِعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي ارْتِفَاعِهِ بِالتَّيَمُّمِ، وَكَوْنُ الْحَدَثِ يَظْهَرُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ، إذْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدَثَ اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ إلَى غَايَةٍ ثُمَّ يُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَالدَّلِيلُ الْمُلْجِئُ إلَى هَذَا كَوْنُ رُؤْيَةِ الْمَاءِ لَا يُعْقَلُ وَجْهُ كَوْنِهَا نَفْسَهَا حَدَثًا ثُمَّ النَّظَرُ فِي وَجْهِ تَعْيِينِ كُلٍّ مِنْهُمْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ بِخُصُوصِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ فِيهِ، فَأَمَّا وَجْهُ تَخْصِيصِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّهُ رَأَى وُجُوبَ الِاحْتِيَاطِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ أَنْ لَا يَصِحَّ، وَلَا يُعَلَّلُ هَذَا إلَّا بِجِهَةِ الضَّرُورَةِ فَاعْتَبَرَ لَهَا فَيَقول: لَمَّا كَانَتْ ضَرُورِيَّةً حَيْثُ كَانَتْ تُنْتَقَضُ بِوُجُودِ الْمَاءِ وَلَا تَثْبُتُ إلَّا مَعَ عَدَمِهِ كَانَتْ ضَعِيفَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ فَيَكُونُ الِاقْتِدَاءُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
وَفِي الرَّجْعَةِ الِاحْتِيَاطُ فِي انْقِطَاعِهَا وَلَا يُعَلَّلُ إلَّا بِجِهَةِ الْإِطْلَاقِ فَاعْتُبِرَ هَاهُنَا، وَهُمَا لَمَّا عَكَسَا الْحُكْمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَكْسِ الْمَبْنِيِّ فِيهِمَا بُدٌّ، وَالْبَاقِي بَعْدَ هَذَا إنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي التَّرْجِيحِ فِي الْخِلَافَيْنِ فِي الْحُكْمِ.
وَعِنْدِي أَنَّ قولهُمَا فِي الِاقْتِدَاءِ أَحْسَنُ مِنْ قول مُحَمَّدٍ، وَقول مُحَمَّدٍ فِي الرَّجْعَةِ أَحْسَنُ مِنْ قولهِمَا لِأَنَّ الضَّعْفَ الْكَائِنَ فِي طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ لَهُ أَثَرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عِنْدَنَا، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ شَيْءٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ وَتَنْقَطِعُ بِهِ الرَّجْعَةُ خُصُوصًا وَالِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ.
هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: إنَّ اشْتِرَاطَ الْغُسْلِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ لِتَمَامِ الْعَادَةِ قَبْلَ الْعَشَرَةِ يَرُدُّهُ الدَّلِيلُ وَهُوَ قوله تَعَالَى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} لِخُلُوِّهِ عَنْ اشْتِرَاطِهِ، فَاشْتِرَاطُهُ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَرُدُّهُ النَّصُّ.
فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّ تَعَيُّنَ الِانْقِضَاءِ مُنْتَفٍ لِفَرْضِ أَنَّهُ لَيْسَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَاحْتِمَالُ عَوْدِ الدَّمِ دُفِعَ بِأَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ الزَّائِدَ لَا يُجْدِي قَطْعُ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا فِي الْوَاقِعِ وَلَا شَرْعًا، لِأَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ ثُمَّ عَادَ الدَّمُ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ كَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ بَعْدَ أَنْ قُلْنَا انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ فَكَانَ الْحَالُ مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ بَعْدَ الْغُسْلِ كَمَا هُوَ كَذَلِكَ قَبْلَهُ.
وَلَوْ رَاجَعَهَا بَعْدَ هَذَا الْغُسْلِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ بِهِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ ثُمَّ عَاوَدَهَا وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي التَّيَمُّمِ فَلَيْسَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا مُقَيَّدًا، هَكَذَا إذَا انْقَطَعَ لِأَقَلِّ مِنْ عَشَرَةٍ وَلَمْ يُعَاوِدْهَا أَوْ عَاوَدَهَا وَتَجَاوَزَهَا ظَهَرَ انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ مِنْ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذْ ذَاكَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الْغُسْلِ ظَهَرَ صِحَّتُهُ، وَإِنْ عَاوَدَهَا وَلَمْ يَتَجَاوَزْ فَالْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ بِالْعَكْسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا ضَرُورِيَّةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ) إذْ حِلُّ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْقِرَاءَةِ مِنْ ضَرُورَةِ حِلِّ الصَّلَاةِ وَمُقْتَضَاهُ، وَكَذَا اللَّمْسُ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مَسِّ الْمُصْحَفِ لِلْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِنِسْيَانٍ أَوْ غَلَطٍ أَوْ زِيَادَةِ إتْقَانٍ، وَكَذَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ.
قولهُ: (وَقِيلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِيَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ فَسَادَهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مُحْتَمَلٌ لِاحْتِمَالِ رُؤْيَةِ الْمَاءِ فِيهَا، وَلَوْ تَيَمَّمَتْ وَقَرَأَتْ أَوْ مَسَّتْ الْمُصْحَفَ أَوْ دَخَلَتْ الْمَسْجِدَ، قَالَ الْكَرْخِيُّ: تَنْقَطِعُ بِهِ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ، وَقَالَ الرَّازِيّ: لَا تَنْقَطِعُ بِهِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا اغْتَسَلَتْ وَنَسِيَتْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ، فَإِنْ كَانَ عُضْوًا فَمَا فَوْقَهُ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتْ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ أَنْ لَا تَبْقَى الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا غَسَلَتْ الْأَكْثَرَ.
وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ أَنْ تَبْقَى لِأَنَّ حُكْمَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ لِقِلَّتِهِ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ، فَقُلْنَا بِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ عَادَةً فَافْتَرَقَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ عُضْوٍ كَامِلٍ.
وَعَنْهُ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا دُونَ الْعُضْوِ لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِ اخْتِلَافًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتْ) وَذَلِكَ كَنَحْوِ الْأُصْبُعِ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَالْيَنَابِيعِ، وَكَذَا بَعْضُ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالْعُضْوِ الْكَامِلِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ.
قولهُ: (وَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ، إلَى قولهِ: وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ) الْحَاصِلُ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْعُضْوِ وَمَا دُونَهُ اسْتِحْسَانٌ، فَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ أَنْ تَنْقَطِعَ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ.
وَفِي بَعْضِ الْعُضْوِ أَنْ لَا تَنْقَطِعَ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ إلَى حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ.
وَلَا يَخْفَى تَأَتِّي كُلٌّ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ الْعُضْوِ وَمَا دُونَهُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَتَعَارَضَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قِيَاسَانِ: قِيَاسُ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ الرَّجْعَةِ، وَقِيَاسُ بَقَاءِ الْحَدَثِ بِعَيْنِهِ فَيُوجِبُ عَدَمَ انْقِطَاعِهَا.
وَمَبْنَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ الثَّانِي، إذْ حَاصِلُهُ اعْتِبَارُ ظُهُورِ عَدَمِ إصَابَةِ الْمَاءِ لِشَيْءٍ وَعَدَمُهُ، فَإِذَا ظَهَرَ عَدَمُهُ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ، وَإِذَا ظَهَرَ ثُبُوتُ الْإِصَابَةِ انْقَطَعَتْ غَيْرَ أَنَّ ظُهُورَ التَّرْكِ يَتَحَقَّقُ فِي الْعُضْوِ لَا فِي الْأَقَلِّ.
عَلَى أَنَّ كَوْنَ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ قِيَاسًا مَمْنُوعٌ، بَلْ إنَّمَا يُحْكَمُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ خَاصَّةٍ بِخُصُوصِ دَلَائِلَ فِيهَا لَا أَنَّهُ مُطَّرِدٌ شَرْعًا مُمَهِّدٌ.
ثُمَّ وَجْهُ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ الْجَفَافُ إلَيْهِ بَعْدَ إصَابَةِ الْمَاءِ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَبِتَقْدِيرِهِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، فَحَكَمَ بِانْقِطَاعِهَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا، وَلَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ حَتَّى تَغْسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ احْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الْفُرُوجِ، حَتَّى إنَّهَا لَوْ تَيَقَّنَتْ عَدَمَ إصَابَةِ الْمَاءِ بِأَنْ عَلِمَتْ قَصْدَهَا إلَى إخْلَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَنْ الْإِصَابَةِ.
قُلْنَا: لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ فَإِنَّ احْتِمَالَ جَفَافِهِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ يَبْعُدُ فِيهِ جِدًّا لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْهُ مِمَّنْ هُوَ بِصَدَدِ تَعْمِيمِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فَلَمْ تَنْقَطِعْ.
قولهُ: (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ الْعُضْوِ) الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ إذْ تَرْكُ كُلٍّ بِانْفِرَادِهِ كَتَرْكِ عُضْوٍ، وَعَنْهُ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ كَتَرْكِ مَا دُونَ الْعُضْوِ.
قولهُ: (لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِمَا) أَيْ فِي فَرْضِيَّةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ اخْتِلَافًا فَعَلَى تَقْدِيرِ الِافْتِرَاضِ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ السُّنَّةِ تَنْقَطِعُ، فَقَطَعْنَاهَا مُلَاحَظَةً لِهَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا، وَلَوْ بَقِيَ أَحَدُ الْمَنْخِرَيْنِ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ) لِأَنَّ الْحَبَلَ مَتَى ظَهَرَ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ جُعِلَ مِنْهُ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوَطْءِ مِنْهُ وَكَذَا إذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَطْءُ تَأَكَّدَ الْمِلْكُ وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكٍ مُتَأَكِّدٍ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَيَبْطُلُ زَعْمُهُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ الْإِحْصَانُ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ الرَّجْعَةُ أَوْلَى.
وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ أَنْ تَلِدَ قَبْلَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالْوِلَادَةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ الرَّجْعَةُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ) قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا (وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الْحَبَلَ مَتَى ظَهَرَ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ التَّزَوُّجِ جُعِلَ مِنْهُ شَرْعًا لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ») وَإِذَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ فَقَدْ أَنْزَلَهُ وَاطِئًا وَبَطَلَ زَعْمُهُ فِي عَدَمِ الْوَطْءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِإِقْرَارِهِ بِعَدَمِ حَقِّ الرَّجْعَةِ لَهُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ حَكَمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَلَهُ الرَّجْعَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَهَذَا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّ أَحَدٍ بِسَبَبِ إقْرَارِهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَأُخِذَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ ثُمَّ وَصَلَتْ إلَى يَدِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا شَرْعًا بِالْحُكْمِ لِلْمُسْتَحِقِّ ثُمَّ بِصِحَّةِ الرُّجُوعِ لَهُ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي عَبْدِ إنْسَانٍ إنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ أَوْ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ اشْتَرَاهُ حُكِمَ بِصِحَّةِ الشِّرَاءِ وَبِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الشِّرَاءِ فَرْعُ تَكْذِيبِهِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَكْذِيبَ الشَّرْعِ إقْرَارَهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ حَقٍّ لَهُ تَكْذِيبٌ فِي اللَّازِمِ فَيَنْتَفِيَانِ، وَإِذَا انْتَفَى عَدَمُ الْوَطْءِ وَالرَّجْعَةِ ثَبَتَ وُجُودُهُمَا فَعَادَ حَقُّهُ فِي الرَّجْعَةِ، بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّ تَكْذِيبَ الشَّرْعِ يَقْصُرُهُ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ فَيَبْقَى لَازِمُ الْمُرْتَفَعِ بِالتَّكْذِيبِ كَمَا لَوْ لَمْ يُكَذَّبْ فَلِذَا كُذِّبَ فِي إقْرَارِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَثَبَتَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْمَقَرِّ لَهُ بِالْعَيْنِ مَعَ تَكْذِيبِهِ بِالْحُكْمِ لِلْمُسْتَحِقِّ.
فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْمَلْزُومِ مَعَ تَخَلُّفِ اللَّازِمِ وَإِنْ كَانَ لُزُومًا شَرْعِيًّا لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ يُبْطِلُ اعْتِبَارَ الشَّرْعِ إيَّاهُ لَازِمًا وَقَدْ فَرَضَ اعْتِبَارَهُ لَازِمًا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ.
أَمَّا الشَّرْعِيِّ فَقَدْ يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِاللُّزُومِ عَلَى تَقْدِيرٍ فَتَقْتَصِرُ الْمُلَازَمَةُ عَلَيْهِ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِالْعَيْنِ لِفُلَانٍ ثَبَتَ أَنَّ فُلَانًا أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَذَّبَهُ الشَّرْعُ بِالْقَضَاءِ بِهِ لِلْمُسْتَحِقِّ فِي إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ لِفُلَانٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِفُلَانٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَقَطْ وَأَنَّهُ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقِرِّ فَثَبَتَ اللُّزُومُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
قولهُ: (أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ الْإِحْصَانُ) أَيْ الْوَطْءِ الَّذِي يَثْبُتُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ وَالْإِحْصَانُ لَهُ مَدْخَلٌ فِي إيجَابِ الْعُقُوبَةِ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ الرَّجْعَةُ وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعُقُوبَةِ أَوْلَى.
قولهُ: (وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ أَنْ تَلِدَ قَبْلَ الطَّلَاقِ) أَيْ فِي مُدَّةٍ تَصْلُحُ بِأَنْ تَلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ النِّكَاحِ كَمَا قَدَّمْنَا.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ خَلَا بِهَا وَأَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَمْلِكْ الرَّجْعَةَ) لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِالْوَطْءِ وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالرَّجْعَةُ حَقُّهُ وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا، بِخِلَافِ الْمَهْرِ لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى يُبْتَنَى عَلَى تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ لَا عَلَى الْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَأَغْلَقَ بَابًا) الْمُنَاسِبُ أَوْ أَغْلَقَ بِأَوْ كَمَا فَعَلَ فِي أَرْخَى لَا بِالْوَاوِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ لِلْخَلْوَةِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِإِثْبَاتِهَا لَا مُبَايِنٌ لَهَا قولهُ (لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِالْوَطْءِ) إذْ بِعَدَمِهِ تَبِينُ بِالطَّلَاقِ لَا إلَى عِدَّةٍ، وَشَرْطُ الرَّجْعَةِ الْعِدَّةُ وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَصَارَ مُبْطِلًا حَقَّ نَفْسِهِ مِنْ الرَّجْعَةِ (قوله وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ إنَّهُ هُنَا أَيْضًا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا حَيْثُ لَزِمَهُ تَمَامُ الْمَهْرِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْخَلْوَةِ وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ شَرْعًا إنْزَالًا لَهُ وَاطِئًا شَرْعًا فَمُنِعَ كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا أَوْ عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُهُ، بَلْ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى تَمَامِ تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ وَهُوَ بُضْعُهَا بِالتَّخْلِيَةِ الَّتِي هِيَ وُسْعُهَا، وَلَوْ تَوَقَّفَ لُزُومُ كَمَالِ الْمَهْرِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ هُوَ فِعْلَهَا لَتَضَرَّرَتْ فَلَمْ يَكُنْ مُكَذَّبًا شَرْعًا وَتَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ أَوْ كَذِبِهِمَا وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا لِأَنَّ انْقِضَاءَهَا يَسْتَلْزِمُ حِلَّهَا لِلْأَزْوَاجِ فَهِيَ حَقُّ الشَّرْعِ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي إبْطَالِهَا فَتَصِيرُ الْعِدَّةُ قَائِمَةً شَرْعًا وَلَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا فَلَمْ تَقُمْ الْخَلْوَةُ هُنَا مَقَامَ الْوَطْءِ لَمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ.
وَقول إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إنَّ الْعِدَّةَ تَسْتَدْعِي سَبَبًا فِي الشُّغْلِ مَرْدُودٌ بِالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَلَوْ قَالَ جَامَعْتهَا كَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي الْوَطْءِ.
قولهُ: (بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) يَتَّصِلُ بِقولهِ لَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا، وَعَنَى بِهِ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِظُهُورِ الْحَمْلِ حَالَ الطَّلَاقِ أَوْ بِالْوِلَادَةِ قَبْلَ الطَّلَاقِ كَمَا هُوَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ لَهُ فِي قولهِ لَمْ أُجَامِعْهَا حَيْثُ جَعَلَهُ وَاطِئًا حُكْمًا لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَنْبَنِي عَلَى الدُّخُولِ وَقَدْ ثَبَتَ لِثُبُوتِ النَّسَبِ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بِلَا مَاءٍ فَتَثْبُتُ.

متن الهداية:
(فَإِنْ رَاجَعَهَا) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا (ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ) (صَحَّتْ تِلْكَ الرَّجْعَةُ) لِأَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذْ هِيَ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْوَلَدُ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَأُنْزِلَ وَاطِئًا قَبْلَ الطَّلَاقِ دُونَ مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي يَزُولُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ قَبْلَهُ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (مَعْنَاهُ بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا) أَيْ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِاعْتِرَافِهِ بِعَدَمِ الْوَطْءِ، فَلَوْ جَاءَتْ بَعْدَ هَذِهِ الرَّجْعَةِ بِوَلَدٍ لِأَقَلِّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ صَحَّتْ: أَيْ ظَهَرَ صِحَّتُهَا.
قولهُ: (لِأَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي) وَهُوَ إنْزَالُهُ وَاطِئًا بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَحِينَئِذٍ فَالصَّلَفُ فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يَقول لِأَنَّ عَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي يَحْرُمُ الْوَطْءُ لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ عَلَى زَعْمِهِ فِي عَدَمِ الْوَطْءِ إذْ الْمُؤَدِّي عَلَى عِبَارَتِهِ هَكَذَا عَلَى اعْتِبَارِ إنْزَالِهِ وَاطِئًا بَعْدَ الطَّلَاقِ يَزُولُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ قَبْلَهُ فَيَحْرُمُ، وَتَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ بِتَكَلُّفٍ بَعْدَ تَوَهُّمِ خَطَئِهَا.
قولهُ: (وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ) فَإِنْ قِيلَ: وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ، فَالْجَوَابُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الِاعْتِبَارَيْنِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ كَذِبُهُ وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ الزِّنَا وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْكِذْبَةِ.

متن الهداية:
(فَإِنْ قَالَ لَهَا إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ فَهِيَ رَجْعَةٌ) مَعْنَاهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ إذَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَيَكُونُ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ عَلُوقٍ حَادِثٍ مِنْهُ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ) أَنْ فِيهِ لِلْوَصْلِ، فَأَفَادَ أَنَّ قولهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَعْنَاهُ: أَيْ فَصَاعِدًا أَقَلُّ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَإِنْ كَانَ عَشْرَ سِنِينَ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الثَّانِيَ يُضَافُ إلَى عَلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ امْتِدَادَ الطُّهْرِ لَا غَايَةَ لَهُ إلَّا الْإِيَاسُ وَبِهِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَوْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ لَا يَكُونُ رَجْعَةً، وَفِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ يَكُونُ رَجْعَةً لِاحْتِمَالِ الْعَلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ سَقَطَ هُنَا لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا مِنْ بَطْنَيْنِ كَانَ الثَّانِي مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُمَا حِينَئِذٍ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الثَّانِي مِنْ وَطْءٍ عَلَى حِدَتِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا بِالْوَطْءِ الْكَائِنِ بَعْدَ الطَّلَاقِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالْوَلَدُ الْأَوَّلُ طَلَاقٌ وَالْوَلَدُ الثَّانِي رَجْعَةٌ وَكَذَا الثَّالِثُ) لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِالْأَوَّلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَصَارَتْ مُعْتَدَّةً، وَبِالثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْعَلُوقَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ فِي الْعِدَّةِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّانِي بِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ، وَبِالْوَلَدِ الثَّالِثِ صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَتَقَعُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ بِوِلَادَةِ الثَّالِثِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ لِأَنَّهَا حَائِلٌ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ حِينَ وَقَعَ الطَّلَاقُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ وَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَهُمَا تَوْءَمَانِ فَيَقَعُ طَلْقَتَانِ بِالْأَوَّلَيْنِ لَا غَيْرَ إذْ بِالثَّالِثِ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلَانِ فِي بَطْنٍ وَالثَّالِثُ فِي بَطْنٍ تَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْأَوَّلِ لَا غَيْرُ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالثَّانِي وَلَا يَقَعُ بِالثَّالِثِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي بَطْنٍ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي بَطْنٍ يَقَعُ ثِنْتَانِ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالثَّالِثِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانُوا فِي بُطُونٍ فَالْوَلَدُ الثَّانِي رَجْعَةٌ، وَكَذَا الثَّالِثُ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِالْأَوَّلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَدَخَلَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَبِالْوَلَدِ الثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَلُوقَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ فِي الْعِدَّةِ فَيَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا.
وَقولهُ وَبِالثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا مَعْنَاهُ ظَهَرَ بِهِ الرَّجْعَةُ سَابِقًا ثُمَّ يَقَعُ بِالثَّانِي طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِكُلَّمَا الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكْرَارِ وَدَخَلَتْ فِي الْعِدَّةِ وَبِالْوَلَدِ الثَّالِثِ تَظْهَرُ رَجْعَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَتَقَعُ الثَّالِثَةُ بِوِلَادَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْحُكْمُ بِالْوَطْءِ فِي النِّفَاسِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّ النِّفَاسَ لَا يَلْزَمُ لَهُ كَمْيَّةٌ خَاصَّةٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُمْتَدٌّ وَجَازَ أَنْ لَا تَرَى شَيْئًا أَصْلًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ فَلَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمُ بِالْوَطْءِ.

متن الهداية:
(وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ) لِأَنَّهَا حَلَالٌ لِلزَّوْجِ إذْ النِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ الرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ لَهُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مَشْرُوعًا (وَيُسْتَحَبُّ لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا حَتَّى يُؤْذِنَهَا أَوْ يُسْمِعَهَا خَفْقَ نَعْلَيْهِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الْمُرَاجَعَةُ لِأَنَّهَا رُبَّمَا تَكُونُ مُتَجَرِّدَةً فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَوْضِعٍ يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: لَهُ ذَلِكَ لِقِيَامِ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَغْشَاهَا عِنْدَنَا.
وَلَنَا قوله تَعَالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الْآيَةَ، وَلِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ، فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَمَلَ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ وَلِهَذَا تُحْتَسَبُ الْأَقْرَاءُ مِنْ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَمْلِكْ الزَّوْجُ الْإِخْرَاجَ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا فَتَبْطُلُ الْعِدَّةُ وَيَتَقَرَّرُ مِلْكُ الزَّوْجِ.
وَقولهُ حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا مَعْنَاهُ الِاسْتِحْبَابُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (تَتَشَوَّفُ) التَّشَوُّفُ خَاصٌّ بِالْوَجْهِ وَالتَّزَيُّنُ عَامٌ مِنْ شُفْت الشَّيْءَ جَلَوْته وَدِينَارٌ مُشَوَّفٌ: أَيْ مَجْلُوٌّ وَهُوَ أَنْ تَجْلُوَ وَجْهَهَا وَتَصْقُلَهُ.
قولهُ: (إذْ النِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا) وَكَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِهِ مِنْ التَّوَارُثِ.
وَلَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ تَدْخُلُ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فَتَطْلُقُ سِوَى الْمُسَافَرَةِ بِهَا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ لِنَصٍّ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قوله تَعَالَى: {وَلَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} نَزَلَتْ فِي الرَّجْعِيَّةِ لِسِيَاقِ الْآيَةِ وَهُوَ قوله تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أَيْ يَبْدُوَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَلِحُرْمَتِهَا بِهَذَا النَّصِّ لَمْ تُجْعَلْ رَجْعَةً لِأَنَّ الرَّجْعَةَ مَنْدُوبَةٌ وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا حَرَامٌ.
قِيلَ وَلَا دَلَالَتُهَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ يُصَرِّحُ بِعَدَمِ رَجْعَتِهَا.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ التَّقْبِيلَ بِشَهْوَةٍ وَنَحْوَهُ يَكُونُ نَفْسُهُ رَجْعَةً وَإِنْ نَادَى عَلَى نَفْسِهِ بِعَدَمِ الرَّجْعَةِ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَمَا قُلْنَا، وَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ لَا يَحِلُّ الْخُرُوجُ بِهَا إلَى مَا دُونَهُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مَنُوطَةً بِالسَّفَرِ بَلْ بِالْخُرُوجِ، وَكَمَا يُكْرَهُ السَّفَرُ بِهَا تُكْرَهُ الْخَلْوَةُ إذْ قَدْ يَنْظُرُ نَظَرًا يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَيُطَلِّقُهَا أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ حَرَامٌ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: إنَّمَا تُكْرَهُ الْخَلْوَةُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ غَشَيَانَهَا إذْ يَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بِغَيْرِ إشْهَادٍ وَهُوَ مَكْرُوهٍ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ إذَا أَمِنَ لَا يُكْرَهُ، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الْخَلْوَةِ حِينَئِذٍ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَى التَّعْلِيلِ بِاحْتِمَالِ النَّظَرِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا كَأَنَّهُ لِبُعْدِهِ جِدًّا حَيْثُ كَانَ إنَّمَا هُوَ النَّظَرُ إلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ، وَقَلَّ أَنْ يَقَعَ مَعَ الْخَلْوَةِ، حَتَّى إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مَعَ زَوْجَتِهِ الَّتِي هِيَ فِي عِصْمَتِهِ سِنِينَ لَا يَقَعُ لَهُ هَذَا النَّظَرُ إلَّا إنْ تَعَمَّدْهُ قَصْدًا حَالَةَ الْجِمَاعِ، لَكِنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قولهُ لِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ: يَعْنِي الطَّلَاقَ وَعَمَلَهُ قُطِعَ النِّكَاحُ لِحَاجَتِهِ: أَيْ لِحَاجَةِ الزَّوْجِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ: أَيْ الْعِدَّةُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الرَّجْعَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَمِلَ الْإِبَانَةَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ وَأَنَّ مُسَافَرَتَهُ بِهَا كَانَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ كَمَا يَقْتَضِي قَصْرَ كَرَاهَةِ الْمُسَافَرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مَا إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ كَذَلِكَ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الْخَلْوَةِ بِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الرَّجْعَةَ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَاجَعَهَا ظَهَرَتْ حَاجَتُهُ، وَأَنَّ الْمُبْطِلَ لَمْ يَعْمَلْ أَصْلًا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْخَلْوَةَ وَالْمُسَافَرَةَ لَمْ يَكُونَا بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ احْتِسَابُ الْأَقْرَاءِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْعِدَّةِ، فَلَوْ كَانَ الْمُبْطِلُ مُقْتَصِرًا عَلَى انْقِضَائِهَا لَمْ تُحْتَسَبْ وَاحْتِيجَ إلَى عِدَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ.
وَالْأَوْجَهُ تَحْرِيمُ السَّفَرِ مُطْلَقًا لِإِطْلَاقِ النَّصِّ فِي مَنْعِ السَّفَرِ بِهَا دُونَ الْخَلْوَةِ لِعَدَمِ النَّصِّ وَقُصُورِ الْمَعْنَى وَهُوَ لُزُومُ الْمُرَاجَعَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلُزُومُ ظُهُورِ أَنَّ الْخَلْوَةَ بِأَجْنَبِيَّةٍ غَيْرُ ضَائِرٍ إذْ حَالَةُ تَحَقُّقِهَا كَانَتْ زَوْجَةً يُبَاحُ مَعَهَا شَرْعًا مَا يُبَاحُ مِنْ الزَّوْجَةِ.

متن الهداية:
(وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحَرِّمُهُ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ وَهُوَ الطَّلَاقُ.
وَلَنَا أَنَّهَا قَائِمَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا لِأَنَّ حَقَّ الرَّجْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلزَّوْجِ لِيُمْكِنَهُ التَّدَارُكُ عِنْدَ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ اسْتِبْدَادَهُ بِهِ، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً إذْ الدَّلِيلُ يُنَافِيهِ وَالْقَاطِعُ أَخَّرَ عِلْمَهُ إلَى مُدَّةٍ إجْمَاعًا أَوْ نَظَرًا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَذَلِكَ) يَعْنِي اسْتِبْدَادَهُ بِهِ (يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً وَالدَّلِيلُ يُنَافِيهِ) أَيْ دَلِيلَ الِاسْتِبْدَادِ وَهُوَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا يُنَافِيهِ: أَيْ يُنَافِي الْإِنْشَاءَ لِأَنَّ لَوْ كَانَ إنْشَاءً وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِهِ الزَّوْجُ بَلْ احْتَاجَ إلَى رِضَا الْمَرْأَةِ وَإِذْنِهَا وَالشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ احْتِيَاطًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ فِي الرَّجْعِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ النُّصُوصِ فَارْجِعْ إلَيْهِ.
قولهُ: (وَالْقَاطِعُ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قول الشَّافِعِيِّ الزَّوْجِيَّةُ زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ.
قُلْنَا نَعَمْ وُجِدَ، وَلَكِنْ أَخَّرَ عَمَلَهُ إجْمَاعًا لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ تَثْبُتُ بِلَا رِضَاهَا يُفِيدُ أَنَّ عَمَلَهُ وَهُوَ الْقَطْعُ مُؤَخِّرٌ.
أَوْ نَقول: تَأَخَّرَ عَمَلُهُ نَظَرًا لِلزَّوْجِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ حَقَّ الرَّجْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.